ونستطيع ان نسميه عصر الهجاء ..&
لانها تصلح عنوانا لشعر العراق في ذلك العصر . والشاعر الهجاء , وجلهم
هجاؤون , ما كان ليطمح إلى اكثر من التفوق في هذا الفن , فهذا جرير
يحزن ويقول (أوه , قضيت والله له علي) عندما يسمع حكم محدثه ـ : (لا
والله ما يشاركك ولا يتعلق بك في النسيب) رغبة الشاعر في التفوق
بالهجاء ما كانت عبثا , وانما كانت وليدة وضع يتربع فيه الهجاء بأرفع مكان ,
توضح هذا عصا ابن عبدل:
عصا حكم في الدار اول داخل ** ونحن على الابواب نقص ونحجب
واقرار المهلب بصدق زياد الاعجم حين قال لما خرق حبيب بن المهلب ثوبه .
لعمرك ما الديباج خرقت وحده ** ولكنما خرقت جلد المهلب
وشراء والي المدينة عمر بن عبد العزيز أهلها من الفرزدق بأربعة
الاف درهم على ان لا يعرض لاحد بمدح ولا هجاء
الحقيقة ان هذا الوضع ليس جديدا , فالخبر الاخير يذكرنا بصنيع مشابه لابن
الخطاب مع الحطيئة , ولكن الجديد فيه . تبلوره ليصبح ظاهرة العصر وليغدو
فنا متميزا عرف بالنقائض, واستشراؤه لدرجة ان يملا دنيا القبائل في
العراق ويشغل ناسها .
والنقائض قصائد طويلة , تشكل القصيدة ونقيضتها الوحدة , ويشترط فيهما
ان تكونا موحدتي الوزن والقافية . وهي : (ان يتجه شاعر الى اخر هاجيا
او مفتخرا , فيعمد الاخر الى رد عليه هاجيا او مفتخرا ملتزمن البحر
والقافية والروى الذي اختاره الاول لكن في كثير من الاحيان تختلف حركة
الروي .
في تاريخ الهجاء
عرف الشعر العربي الهجاء كتعبير عن الصراع الذي كان يخوضه الشاعر , او
انه كان احد اشكال ذلك الصراع . فعندما يغزو الربيع بن زياد العبسي قوم
يزيد بن صعق...ويصيب جعفر وحية , ويعود يزيد ويصيب ثأره ..يتبقى لنا من
هذا العراك هذا الذي يسمونه هجاء , قال يزيد :
ألا ابلغ لديك ابا حريث
وعاقبة الملام للمليم
فكيف ترى معاقبتي وسعيي
بأداد القصية والقصيم
وما برحت قلوصي كل يوم
تكر على المخالف والمقيم
وكان الربيع قد قال :
فاذا أخطأت قومك يا يزيدا
فانعي جعفرا لك والوليدا
وقال لبيد بن ربيعة يرد على الربيع :
لست بغافر لبني بغيض
سأخذ من سراتهم بعرضي
سفاهتهم ولا خطل اللسان
وليسوا بالوفاء ولا المداني..
وأجابه النابغة :
ألا من مبلغ عني لبيدا
لقد أزجى مطيته الينا
أبا الدرداء مجفلة الاثان
بمنطق جاهل خطل اللسان
هذا الشعر ان هو الا بعض من ذلك الصراع الذي كان دائرا بين قبائل هؤلاء
الشعراء , أوأحد وجوهه , وهو لا يندرج تحت عنوان النقائض كما انه يخلو
من السباب . ولعلي لا أتجاوز الحقيقة عندما أقول : ان الهجاء الجاهلي ما
كان مفحشا بالقياس للهجاء الاموي , فالمعروف عن النابغة انه كان يفضل
التهكم على الافحاش . ولا يعني هذا ان العصر الجاهلي لم يعرف
النقائض , لكنها , وان التزمت وحدة الموضوع والبحر والقافية , بقيت كما
يقول الاستاذ الشايب , في اطار القبيلة والايام , ولم تبلغ من القوة
والسيرورة والطول والتأثير ما بلغته ايام الامويين , وبقيت ترعى الحرمات
وتقف عند صفات الجبن والبخل والفرار ولم تسف . ومما يوضح طبيعة
الهجاء الجاهلي والنقائض الجاهلية قول لدريد بن الصمة , قاله عندما
تهاجى شاعرا سليم : خفاف بن عمير والعباس بن مرداس , وهو : (كفوا
صاحبكم عن لجاج الحرب وتهادى الشعر). فاستحيا العباس وقال : (انا نكف
عن الحرب ونتهادى الشعر). فقال دريد : (ان كنتما لا بد فاعلين فاذكرا ما
شئتما ودعا الشتم , فان الشتم طرف الحرب) يقول ابن الصمة : تهادى
الشعر (الجاج) الحرب , ويطلب ترك الشتم وربما كان في فهم هذا الفارس
الجاهلي للهجاء خير دليل على ما أذهب اليه . ومن النقائض الجاهلية
الكثيرة ما دار بين النابغة الذبياني وعامر بن الطفيل . لم يحل الاسلام دون
استمرار الهجاء والنقائض , وانما جدت أسباب زادته اضطراما , واضافت الى
معانيه الفخر بالدين الجديد . ويقول الاستاذ الشايب (ظهر الاسلام والفن
قائم مستقيم المنهج ولا سيما بين الاوس والخزرج , وبقيت معانيه
واساليبه جاهلية , ولم يخل الامر من ان تضاف اليه هلهلة لنظم المعاني
الاسلامية , ولم تشتمل هذه النقائض على فحش رغم حدة الصراع) .
فعندما يقول ابن الزبعري بعد احد
ليت أشياخي ببدر شهدوا
جزع الخزرج من وقع الاسل
يجيبه حسان:
لقد نلتم ونلنا منكم
وكذاك الحرب احيانا دول
وفي اعقاب حنين , قال ابو ثواب زيد بن صحار احد بني سعد بن بكر قيس عيلان :
الا هل اتاك ان غلبت قريش
هوازن , والخطوب لها شروط
فأجابه عبدالله بن وهب :
شرط الله نضرب من لقينا
كأفضل ما رأيت من الشروط
وبعد مقتل عثمان , قال الوليد بن عقبة :
بني هاشم ايه فما كان بيننا
وسيف ابن اروى عندكم وحرائبه
فأجابه الفضل بن العباس :
فلا تسألون سيفكم ان سيفكم
اضيع والقاه عند الروع صاحبه
وفي أوج الصراع بين الامام علي ومعاوية , قال ابن جعيل :
أرى الشام تكره ملك العراق
واهل العراق لها كارهونا
فأجابه النجاشي :
دعن معاوي ما لن يكونا
فقد حقق الله ما تحذرونا
إنها نقائض ولكنها تدور حول معركة , تسبقها وترافقها وتعقبها . بعضا من
ذلك الصراع كانت ..ولكن يمكن ملاحظة أن كثيرا من النقائض ما كان يرتد
الى اسباب سياسية , وانما الى اسباب اخرى عديدة تورث خصومة . فيزيد
بن الطثرية تهاجي وابي فديك حين احب وحشية الجرمية قريبة هذا
الاخير . وهدبة بن خشرم العذري تهاجى وزيادة الرقاشي لاسباب شخصية
تتعلق برهان , وشبب كل منهما بأخت الاخر , وابن الدمينة تهاجى وحبيبته
أميمة , وكان قد هام بها فلما وصلته تجني عليها , قالت أميمة :
وانت الذي أخلفتني ما وعدتني
وأبرزتني للناس ثم تركتني
وأشمت بي من كان فيك يلوم
لهم غرضا أرمى وانت سليم
واجابها ابن الدمينة :
وانت التي قطعت قلبي حزازة
وانت التي كلفتني دلج السرى
وانت التي أحفظت قومي فكلهم
ومزقت قرح القلب فهو كليم
وجون القطا بالجلهتين جثوم
بعيد الرضا دامي الصدر كظوم
وهكذا صارت النقائض تعبيرا عن صراع شخصي , بعد ان صار للفرد مكانته
الخاصة المميزة عن مكانته القبلية .
المحترفون
سأشكر أن رددت علي ريشي
وأنبت القوادم في جناحي
(جرير)
ظاهرة الاحتراف وأثرها :
كان للسلطان أثر في توجيه الشعر وتطوره ، وأكثر ما كان هذا الأثر في
المحترفين من الشعراء وفي شعرهم وعبرهم . وقد انتبه كثير من الباحثين
الى ظاهرة الاحتراف في الشعر العربي ومن هؤلاء : د.إحسان عباس
الذي قال : في مقدمته لشعر الخوارج وبمناسبة الحديث عنهم. لم يكن
أكثر هؤلاء الشعراء محترفين إن صح هذا التعبير . ود.درويش الجندي ،
صاحب كتاب (الحطيئة البدوي المحترف )وكتاب (ظاهرة التكسب..)وقد
تحدث د. الجندي بشكل جيد عن الامتهان وعن أثره في الشعر العربي.
أما صاحب الحديث المفصل عن المحترفين ومرشدي الى هذا العنوان فهو
د.عبدالقادر القط ، الذي تناول شعر المحترفين بالدرس ، بشكل مفصل في
فصل خاص أسماه (المحترفون) شكل جزءا أساسيا من كتابة القيم (في
الشعر الاسلامي والأموي ).
وأعتقد أنه من الضروري تحديد ما نعنيه بالاحتراف ، لأن هذا يجعلنا نمسك
بأهم المفاتيح الموصلة الى حرم الشعر في العصر الأموي.
تنفيذ سياسته العامة ، تماما كما كان يحق له التصرف بقادته العسكريين
وفق ما تقتضيه مصلحة الخلافة : ولعل أبيات جرير التالية تضع يدنا بشكل
ملموس على العلاقة التي كانت قائمة بين الشاعر والسلطان:
تعلل وهي ساغة بنيها بأنفاس من الشيم القراح
أغثني يا فداك وأمي بسبب منك وإنك ذو إمتياح
سأشكر ان رددت على ريشي وأنبت القوادم في جناحي
هذه العلاقة تتحدد بسغب الشاعر وغوث الخليفة وشكر الشاعر أو بتعبير
آخر يكسر الخليفة جناح الطائر فيطير يجوب البلاد شاديا بالمجد الذي
كساه . وعندما قال الحطيئة لابن الخطاب ، لما طلب منه هذا الأخير ترك
التعرض للناس بشعره ، إذن يموت عيالي جوعا ، هذا مكسبي ومنها
معاشي ) كان يحدد الطريق الذي سلكه الشاعر ، ففقد فيه اتجاهه الذاتي
الخاص وصار هذا الاتجاه بيد (المعيش) وهو هنا الخلافة الأموية التي أفاد
أربابها من التباين الذي حدث بين وضع الشاعر المالي ، وبين موقعه
الاجتماعي المؤثر ، ومن كونها مصدر الرزق. هذا الواقع هو الذي أفقد
الشاعر التعبير عن تجربته وموقفه ، وهو الذي جعل الشاعر المحترف يحصر
نشاطه في التعبير عن مواقف السلطان.
يروي الطبري: تواقف الأزارقة وأهل البصرة على الخندق ، ونادوا أهل
البصرة : ما تقولون في مصعب؟ قالوا : إمام هدى . قالوا : فما قولكم في
عبدالملك؟ قالوا : ذاك ابن اللعين . قال الأزارقة : إن عبدالملك قتل مصعبا .
ونراكم ستجعلون غدا عبدالملك إمامكم. فلما كان الغد تبين لهم قتل
مصعب . فبايع المهلب لعبدالملك..) وجاء في الأغاني : لقيت الفرزدق
فقلت له يا أبا فراس أنت الذي تقول:
فليت الأكف الدافنات ابن يوسف يقطعن إذ غيبن تحت السقائف
فقالت : نعم : ثم قلت بعد ذلك له :
لقد أصبح الأحياء منهم أذلة وفي الناس موتاهم كلوحا سبالها
قال ، فقال الفرزدق نعم ، نكون مع الواحد منهم ما كان الله معه ، فإذا
تخلى انقلبنا عليه.
الايشبه موقف الفرزدق موقف المهلب ولم لا؟ فكلاهما قائد وإن اختلف
الميدان : ولعل القائد الاعلامي يكون أقدر على تبرير موقفه والاقناع به من
القائد العسكري وقد رأينا كيف يربط الفرزدق خطواته بإرادة الله فيجعل من
موقفه طاعة له .غير أن نصا آخر ينسب للفرزدق يثبت أن طلبه لم يكن
رضا الله وإنما : الدنيا مطلوبة وهي في أيدي بني أمية ).
الاحتراف الذي نلحظه هنا هو : توظيف الشاعر مقدرته الفنية في خدمة
السلطان القائم : من كان الله معه ) دون أي اهتمام بمبدأ ودون أن يكون له
موقف خاص ، من أجل الدنيا المطلوبة .
الحالة الاقتصادية في عيون الشعراء .. &
وقد صور الشاعر ابن عبدل الأسدي حالته الاقتصادية المزرية بقصيدة مدح
بها بعض نبلاء الكوفة، طالباً منه أن يسعفه بما تدر به كفه من جميل فقال:
يـــا أبا طــــلحة الجواد أغثني بسجال مــن ســــــيبك المعتوم
أحي نفـساً - فدنك نفسي فإني مفلس، قد علــــمت ذاك، قـديم
أو تطـــوع لنا بســــــلف دقيق أجره، إن فعـــلت ذاك - عظيم
قد علمــــتم - فلا تقاعس عني ما قـــضى الله في طعام اليتيم
ليس لــــي غير جرة وأصيص وكتـــــاب منـــــمنم كــالوشوم
وكــــســـاء أبيــــعه بــــرغيف قد رقـــــعنا خـــروقه بـأديـــــم
وأكـــــاف أعـــــارينه نشــــيط ولحـاف لكل ضــــيف كريم(1)
فكما نرى هذا الشاعر البائس، نهشه الفقر والحرمان، وأماته الجوع يطلب
أن يسعفه هذا الرجل الكريم بالطعام ليحيي نفسه من براثن الفقر المدقع.
وكانت عامة الناس تعيش حياة بائسة لا تعرف السعة والرخاء، لأن
الاقتصاد قد تحول كله إلى جيوب الأمويين وعملائهم.
ترف الملوك الأمويين:
انغمس ملوك الأمويين بالنعم والترف، فكان فتيانهم يرفلون بالقوهيوالعرشي كأنهم الدنانير الهرقلية، وكان عمر بن عبد العزيز يلبس الثوب بأربعماية دينار ويقول: ما أخشنه.
وروى هارون بن صالح عن أبيه قال: كنا نعطي الغسال الدراهم الكثيرة حتى يغسل ثيابنا في إثر ثياب عمر بن عبد العزيز من كثرة الطيب - يعني المسك - الذي فيها.
وكان مروان بن أبان بن عثمان يلبس سبعة قمصان كأنها درج بعضها أقصر من بعض، وفوقها رداء عدني بألفي درهم باقتصاد الأمة وثرواتها وبعدهم عن تعاليم الإسلام السمحة العادلة.
هباتهم السخية للشعراء:
أسرف الملوك الأمويون الكثير من هباتهم للشعراء، فأجزلوا لهم العطاء ليقطعوا ألسنتهم وينطقوا بفضلهم. فالأحوص، شاعرهم، نال مرة مائة ألف درهم، كما نال مرة أخرى عشرة آلاف دينار، ويشير إلى ثرائه الواسع في شعره فيوّضح إنه لم يكن مكتسباً من تجارة أو ميراث وإنما هو من هبات الأمويين وعطاياهم فقال:
ومــــــــا كــان لي طـــــارفاً من تجارة وما كان ميراثاً مــن المال متلدا
ولكن عطـــــايا من إمـــــام مبـــــــارك مـــلا الأرض معروفاً وجــوداً وسؤددا
وقال في مدح الوليد بن عبد الملك:
إمــــــام أتـــــــاه الملك عفواً ولم يثب على ملــــكه مالاً حراماً ولا دمـاً
تــــــخيــــــره رب العـــــــباد لخـــــلقه وليــــــاً وكــــــان الله بــــالناس أعلما
فلما ارتضـــــاه الله لـــــــم يدع مسلماً لبـــيــعــــــته إلا أجــــــاب وســـــــلّما
يـــــنال الغـــــنى والعز من نــــال وده ويرهـــــب موتاً عـــــاجلاً من تشاءما
وإن بكـــــفيه مـــــــفاتــــــيح رحــــمة وغــــيث حيا يـــحيا به الناس مرهما
يقول الشاعر إن من يتصل بالوليد ويكون من عملائه يخفي مساوءه وينشر
فضائله متملقاً متكسباً، ينال الغنى والثراء العريض، وأما من ينصرف عنه،
فإنه ينال الموت المعجل. ومن الطبيعي أن نجد في كل عصر، وخاصة في
عصر الإرهاب والتجويع، من يتملق للسلطان لينال الحظوة عنده فيكذب
ويخادع ويصانع ليكسب لقمة عيشه..
والأخطل شاعر البلاط الأموي، وبصورة خاصة شاعر عبد الملك بن مروان.
روى أحد أساطين الأدب قال: دخل الأخطل يوماً على عبد الملك بن مروان
الأموي أيما إعجاب وقال للأخطل: ويحك! أتريد أن أكتب إلى الآفاق أنك
أشعر العرب، فقال: أكتفي بقول أمير المؤمنين، فخلع عليه وأمر بجفنة
كانت بين يديه فملئت له دراهم، ثم أرسل معه غلاماً فخرج به وهو يقول:
هذا شاعر أمير المؤمنين، هذا أشعر العرب.
قال الأخطل هذه القصيدة في عبد الملك بن مروان بعد فتحه العراق
وانتصاره على مصعب بن الزبير، وفرض عليه موقفه السياسي أن يهجو
أعدائه بني أمية، فقال:
إلــــــى امـــــرئ لا تــعدينا نوافله أظفره الله، فليـــــهـــنأ لـــه الظفر
الخــائض الغمرة، الميمون طائره خليفة الله يستــــسقي بــــه المطر
في نـــبعة من قريش يعصبون بها ما إن يـوازى بأعلى نبتها الشجر
تعلو الهضــاب وحلوا في أرومتها أهل الرَّبـاء وأهل الفخر إن فخروا
حشد على الحـق عيافو الخنا أنف إذا ألمــــت بهم مـــكروهة صبروا
شمس العداوة حــــتى يستقاد لهم وأعـــظم الناس أحـــلاماً إذا قدروا
أعطـــــاهم الله جَدا ينــــصرون به لا جَـــدّ الاَّ صغير، بــــعد، مـحتقر
بني أمــــــية قــــد نــاضلت دونكم أبناء قــوم، هم آووا، وهم نصروا
أفحمت عنكم بني النجار قد علمت عليــــا مــعد، وكانوا طالما هدروا
يقول الأخطل شاعر البلاط الأموي المتكسب بشعره: إن الأمويين، حشد
على الحق، وعداوتهم قاسية على من يتمرد عليهم. وقد ناضل الشاعر
دونهم الأنصار وهم قبيلتا الأوس والخزرج الذين آووا النبي محمداً في
يثرب لما هاجر من مكة.
ثم يمننهم ويقول إنه بمدحهم هذا أسكت عنهم بني النجار وهم قوم من
الأنصار ومنهم شاعر النبي (حسان بن ثابت) إنه شاعر يبيع كلامه بدنانير
الأمويين وهمه الوحيد كسب المال ولا فرق عنده بين الحق والباطل. ولم
يكتف بمدحهم بل تكفل أيضاً بهجاء أعدائهم.
ومن مدح الملوك إلى مدح الولاة، إلى مدح أكثرهم فجوراً وظلماً وغدراً، هو
الحجاج بن يوسف الذي سفك الدماء وقتل الأحرار وهدم الكعبة ورماها
بالمجانيق... هذا الوالي الفاجر العاهر مدحه الأخطل بقصيدة عنوانها: (نور
أضاء البلاد)، قال فيها:
أحـــــيا الإلـــــه لنا الإمام فإنه خير البــــرية للــــذنوب غفور
نور أضاء لنـا البلاد وقد دجت ظلم تـــــكاد بـــها الهداة تجور
الفاخرون بكــــل فـــــعل صالح وأخــــو المكارم بالفعال فخور
فــــعليك بالحجـــاج لا تعدل به أحداً إذا نـــــزلت علـــيك أمور
ولقـــــد علمت وأنت أعلمنا به أن ابن يــوسف حازم منصور
وأخو الـصفاء فما تزال غنيمة منه يـــــجيء بــها إليك بشير
وهذا أيضاً شعر تكسبي هم صاحبه كسب الميل ونيل الجوائر السنية من
ملوك بني أمية وولاتهم.
هباتهم للمغنين والمطربين:
كما أجزل الأمويون العطاء للشعراء، فقد أغدقوا الجوائز على المغنين الذين
توافدوا عليهم من شتى البلدان.
فقد أعطى الوليد بن يزيد معبداً المغني اثني عشر ألف ديناراً.
واستقدم جميع مغني ومغنيات الحجاز وأغدق عليهم الجوائز الكثيرة.
من هؤلاء وفد على يزيد بن عبد الملك معبدٌ ومالك بن أبي السمح وابن
عائشة فأمر لكل واحد منهم بألف دينار.
وطلب الوليد المفتي يونس الكاتب فذهب إليه وغناه فأعجب بغنائه، فأجازه
بثلاثة آلاف دينار. وهكذا كما ترى كانت تتفرق ثروات الأمة الإسلامية
على المغنين والمطربين والعابثين من أجل نزوات الملوك الرخيصة
ورغباتهم الحقيرة. وذلك في وقت أخذ الفقر والبؤس فيه يشد على خناق
المواطنين، ولم يعد للاقتصاد الإسلامي أي وجود في واقع الحياة العامة.
ولا يخفى أن هذه صفات الحكم الدكتاتوري الذي يسير وراء الأهواء
والعواطف ولا يتقيد بقانون أو دين أو أخلاق.
شيوع الغناء:
شاع الغناء في المدينة المنورة حتى أصبحت مركزاً له ومقصداً للمغنين
والمغنيات من شتى البلدان. قال أبو الفرج الأصفهاني: إن الغناء في
المدينة لا ينكره عالمهم، ولا يدفعه عابدهم وقال أبو يوسف لبعض
أهالي المدينة: ما أعجب أمركم يا أهل المدينة، في هذه الأغاني، ما منكم
شريف ولا دنيء يتحاشى عنها.
وكان العقيق إذا سال، وأخذ المغنون يلقون أغانيهم لم يبق في المدينة
مخبأة، ولا شابة ولا شاب، ولا كهل إلا خرج ببصره ويسمع الغناء. ومن
طريف ما ينقل أنه شهد عند عبد العزيز المخزومي، قاضي يثرب دحمان
المغني الشهير لرجل من أهل المدينة على رجل من أهل العراق فأجاز
القاضي شهادته وعدله، فقال له العراقي: إنه يغني ويعلم الجواري الغناء،
فقال القاضي: غفر الله لنا ولك، وأينا لا يتغنى.
وكان فقيه المدينة مالك بن أنس له معرفة تامة بالغناء، فقد روى حسين
بن دحمان الأشقر، قال: كنت بالمدينة فخلا لي الطريق وسط النهار فجعلت أغني:
مــــــا بــــال أهــــــلك يا رباب خـــــزراً كـــأنهم غصاب
قال: فإذا خوخةً قد فتحت، وإذا وجه قد بدا تتبعه لحية حمراء، فقال: يا
فاسق أسأت التأدية، ومنعت القائلة وأذعت الفاحشة، ثم اندفع يغني
فظننت أن طويساً قد نشر بعينه، فقلت له: أصلحك الله من أين لك هذا
الغناء؟ فقال: نشأت وأنا غلام حدث أتبع المغنين وآخذ عنهم، فقالت لي
أمي: إن المغني إذا كان قبيح الوجه لم يلتفت إلى غنائه، فدع الغناء،
وأطلب الفقه، فإنه لا يضر معه قبح الوجه، فتركت المغنين واتبعت الفقهاء.
فقلت له: فأعد جعلت فداك، فقال: لا، ولا كرامة، أتريد أن تقول: أخذته عن
مالك بن أنس، وإذا هو مالك بن أنس، ولم أعلم.
وسواء أصحت هذه الرواية أم لا تصح، وسواء أوضعها الحاقدون على مالك
أم نقلوها للحط من شأنه، فإن الذي لا ريب فيه أن المدينة المنورة في
العصر الأموي كانت مركزاً مهماً من مراكز الغناء في العالم الإسلامي،
ومعهداً خاصاً لتعليم الجواري الغناء والرقص.
الغناء والرقص:
كانت تقام في يثرب والمدينة حفلات الغناء والرقص لأشهر المغنين
والمغنيات، وربما كانت مختلطة بين الرجال والنساء، ولم توضع بينهما ستارة
روى أبو الفرج قال: إن جميلة جلست يوماً، ولبست برنساً طويلاً، وألبست
من كان معها برانس، ثم قامت ورقصت، وضربت بالعود، وعلى رأسها
البرنس الطويل، وعلى عاتقها بردة يمانية، وعلى القوم أمثالها وقام ابن
سريج يرقص، ومعبد، والغريدي، وابن عائشة، ومالك، وفي يد كل منهم
عود يضرب به على ضرب جميلة، ورقصها، فغنت وغنى القوم على غنائها،
ثم دعت بثياب مصبغة، ودعت للقوم بمثل ذلك فلبسوا، وتمشت ومشى
القوم خلفها، وغنت وغنوا بغنائها بصوت واحد(20). وكانت عائشة بنت
طلحة تقيم احتفالات مختلطة من الرجال والنساء، وتغني فيها عزة الميلا
تأثر أهل المدينة بالغناء:
سمعٍ عمر بن أبي ربيعة صوتاً من جميلة فشق قميصه إلى أسفله فصار
قباءاً وهو لا يدري(22). ويزيد بن عبد الملك اشترى المغنية (سلامة القس)
من مولاها بعشرين ألف دينار(23). ثم خرج أهل المدينة لتوديعها، وقد ملؤوا
رحبة القصر، فوقفت بينهم وغنتهم:
فــــــارقوني وقد عــــلمت يقيناً مــــا لمـن ذاق ميتة من إياب
والناس وراءها ينتحبون ويبكون كلما رددت هذا الصوت.
ويزيد بن عبد الملك اشترى المغنية والراقصة (حبابة) فجعلت تغني عنده،
وكان إلى جانبه الذي باعها، وهو من أهل المدينة فعرض لحيته إلى شمعة
فاحترقت ولم يحس بها من شدة الطرب. وقد نقل لنا المؤرخون الكثير من
النوادر عن شدة تأثر أهل المدينة بالغناء والطرب .
نتمنى ان يكون العدد قد نال اعجباكم ......&